أثر عظمة الله في الخشوع له - عظمته في رحمته
من أسماء الله تعالى: الرحمن الرحيم، ورحمته تعالى كغيرها من صفاته، شاملة لجميع خلقه في سماواته وأرضه، والإنسان الذي أوجده الله تعالى في هذه الأرض، يرى آثار شمول رحمته في كل ما حوله من انسان ونبات، فالإنسان نفسه سبق الكلام على نعم الله عليه في ذاته وفيما سخره له من السماوات ومن الأرض، والتسخير كله رحمة من الله تعالى.
إن الإنسان الذي يلحقه ضرر من أخيه الإنسان، لو استطاع لأنزل به من الضرر ما يفوق ما أصابه من ضرر أضعافاً مضاعفة، بل لو أن إنساناً استقل بملك خزينة من خزائن الله تعالى تشمل مصالحها غيره من المخلوقات، لبخل بها عليهم وأمسكها عنهم، ولو هلكوا بذلك: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً(53)}.[النساء]
{قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُوراً (100)}.[الإسراء] والسبب في ذلك بخل هذا الإنسان بما يملك خشية نفاده؛ لأنه فقير فقراً ذاتياً مهما عظم ملكه؛ ولأنه يفقد الرحمة التي تدفعه إلى الإنفاق على غيره، وتزجره من منعه عنه.
بخلاف الخالق الغني الكريم الرحمن الرحيم، فإنه لا يخشى الفقر؛ لأنه غنيٌّ غنىً ذاتياً له خزائن السماوات والأرض وخزائنه لا تنفد: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ....(96)}. [النحل]
{هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)}. [محمد]
رحمته شاملة في الدنيا والآخرة:
قال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)}.[الأنعام] هذه السعة في رحمته تعالى شاملة لكل حي في الدنيا، سواء كان من أوليائه المطيعين، أم من أعدائه العصاة الكافرين والفاسقين؛ لأن الله تعالى خلقهم جميعاً، فلا يحرم أحداً منهم من رحمته التي منها رزقهم الذي يكون سبباً في بقاء حياتهم المحدودة: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}.[البقرة]
قال سيد قطب رحمه الله، وهو يتفيأ في ظلال آية البقرة هذه: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}: "فقل ربكم ذو رحمة واسعة بنا, وبمن كان مؤمناً من عباده, وبغيرهم من خلقه. فرحمته ـ سبحانه ـ تسع المحسن والمسيء; وهو لا يعجل على من استحق العقاب; حلماً منه ورحمة. فإن بعضهم قد يثوب إلى الله.. ولكن بأسه شديد لا يرده عن المجرمين إلا حلمه, وما قدره من إمهالهم إلى أجل مرسوم. وهذا القول فيه من الإطماع في الرحمة بقدر ما فيه من الإرهاب بالبأس. والله الذي خلق قلوب البشر; يخاطبها بهذا وذاك; لعلها تهتز وتتلقى وتستجيب". انتهى.
ومن آثار سعة صفة رحمته تعالى منحه مخلوقاته ما خلقه فيهم من التراحم الشامل فيما بينهم، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن لله مائة رحمة.. أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام.. فبها يتعاطفون.. وبها يتراحمون.. وبها تعطف الوحش على ولدها.. وأخَّر الله تسعاً وتسعين رحمة.. يرحم بها عباده يوم القيامة). وفي حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: (إن الله عز وجل خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها وإنسها وبهائمها، وأخَّر عنده تسعاً وتسعين رحمة..). [رواه مسلم (17/61).]
وإنا لنشاهد ذلك التراحم والحنان بين بني الإنسان، فنرى كلاً من الزوجين يرحم زوجه ويكن له من الود والرأفة ما يحقق بينهما السكن والاطمئنان، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(21)}. [الروم]
كما نرى تلك الرحمة ماثلة في حنان الآباء على أولادهم كباراً وصغاراً، مع تخصيص صغارهم بغاية الرحمة، لشدة حاجتهم إليها أكثر من الكبار الذين شرعوا في الاستقلال بالقيام بشئونهم.
والأم أوفر حظاً من الأب في الرحمة على أولادها والعناية بهم، لكثرة صلتها بهم حملاً وولادةً وغذاءً وتربيةً وتنظيفاً، يظهر ذلك فيما تعانيه مدة الحمل من مشقة وضعف ووهن، وصعوبة الولادة بهم التي قد تفقد حياتها بسببها أو تكاد، فإذا وضعت حملها وجدتها شديدة الحرص على رؤية وليدها وضمه إلى صدرها لشدة حبها له ورحمتها به: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)}. [لقمان]
ولهذا كانت أولى ببرهم ورحمتهم من الأب، وإن وجب عليهم برهما جميعاً، كما قال تعالى: {..وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (24)}.[الإسراء ]
نعم مع وجوب بر الأولاد بآبائهم وأمهاتهم جميعاً، فقد خصَّ الله الأمهات بالأولوية في ذلك كما روى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ الله عليه الصلاة والسلام، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله! مَنْ أَحَقُّ الناس بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟" قَالَ: (أُمُّكَ) قَالَ: "ثُمَّ مَنْ؟" قَالَ: (أُمُّكَ) قَالَ: "ثُمَّ مَنْ؟" قَالَ: (أُمُّكَ) قَالَ: ثُمَّ "مَنْ؟" قَالَ: (ثُمَّ أَبُوكَ).. [البخاري ومسلم]
هذه الرحمة الأبوية كما أودعها الله تعالى في عقلاء مخلوقاته، جبل عليها حيواناتهم العجماء، فنرى أنثاها عندما تضع حملها، تلتفت إليه بمجرد نزوله من رحمها بعطف وحنان شديدين، متخذة لسانها أداة لتنظيفه مما علق به من الأوساخ حتى تنظفه، ثم تحاول بجهد تمرينه على التقام ثديها ليرضع من لبنها، والحرص على سلامته، فتمرنه على الحركة والمشي، وتحميه بنفسها وحياتها إذا اقتضى الأمر من عاديات الانسانات الأخرى فتقربه منها حتى لا يبعد عنها، من أجل حمايته، بل إنك لترى اللبؤة الشديدة الضراوة العظيمة الهجوم والفتك، تأخذ جراءها الصغار بين فكيها وتودعها في أماكن تأمن عليها من الكهوف والحفر خشية من وصول الوحوش الأخرى إليها عندما تذهب هي لاصطياد ما تغذي به الجراء الصغار.
وترى بعض الحيوانات كالقرود تحمل أولادها الصغار على ظهورها لمسافات طويلة، أو تضمها إلى صدورها لتتمكن من الرضاع منها في حال سيرها، أو لإخفائها من عاديات حيوانان أخرى عليها، وخلق تعالى لبعض الانسانات أكياساً حول بطونها تضع فيها أولادها، مثل الكانجرو؛ لأن ذلك أحفظ لأولادها الصغار عند مشيها، لأنها تقفز في سيرها قفزاً كما هو معروف.
وإنك لترى القطط الأليفة الوديعة، والدجاج الهادئ تتوحش إذا أحست أن أحداً يريد الاعتداء على أولادها، فترى جسمها يقشعر، وشعرها ينتفش استعداداً للدفاع عنها، وهكذا سائر الانسانات.
ولقد أخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام، أن الله تعالى يغفر كبائر ذنوب العصاة بسبب رحمتهم للانسان، كما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ، قال: (غُفِر لامرأة مومسة، مرت بكلب على رأس ركي، يلهث) قال: (كاد يقتله العطش، فنزعت خفها، فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فغفر لها بذلك).[متفق عليه].
الثلاثاء 20 يناير 2015, 3:05 pm من طرف Ɠǿȴ Ð Ɍоɠєɽ