سلطان بن عبد الرحمن العميري
الأربعاء
20 ذو الحجة 1432 الموافق 20 ديسمبر 1432
-1-
بيّنت الشريعة أحكام المخالفين لأصولها وفروعها، وحدّدت الأوصاف التي تُطلق عليهم، وأوضحت الأحكام التي يُتعامل بها معهم.
واهتمّت الشريعة الغرّاء بهذا الجانب اهتمامًا بالغًا، وهذا الاهتمام يوجب على الأمة أن تلتزم بما بيّنته الشريعة واهتمّت به، وتحرص على التمسّك بما حدّدته من ضوابط وشروط، ويوجب عليها أيضًا تطبيقه وتفعيله في الواقع؛ لأنّ تلك الأحكام والأوصاف جزء من الشريعة، وإهماله أو إنكاره هو في الحقيقة إهمال وإنكار لجزء من الدين؛ ولهذا نصّ العلماء على أن من لم يكفّر الكافر فهو كافر؛ لأنّ من لم يكفّر المعيّن المقطوع بكفره أو توقّف فيه، فهو مكذّب لكلّ نصّ يدلّ على تعميم التديّن بالإسلام، وكفر من تديّن بغير دين الإسلام.
ولكن الشريعة مع ذلك تشدّدت كثيرًا في تنزيل تلك الأوصاف على الأعيان وقيّدتها بقيود ثقال، وأقامت حولها سياجًا ضخمًا من الضوابط، وحذت نصوصها بتحذيرات متتابعة من التساهل أو التهاون في استعمال تلك الأوصاف وتنزيلها على المسلمين.
وقد تنوّعت دلالات النصوص الشرعيّة في التحذير والتنفير من أي تهاون في تنزيل تلك الأوصاف أو في استعمالها، تارة بطريق التصريح بالتحريم، وتارة بالموازنة بينه وبين القتل، وتارة بإمكان رجوع الوصف إلى المفسّق والمضلّل والمكفّر نفسه.
ومن تلك النصوص التي شنّعت على التساهل في إطلاق أوصاف التفسيق والتضليل على المسلم قوله عليه الصلاة والسلام: "إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا". [البخاري: (1739)]، وقوله عليه الصلاة والسلام: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه". [مسلم: (6706)].
من تلك النصوص: قوله عليه الصلاة والسلام: "ومن رمى مؤمنًا بكفر فهو كقتله". [البخاري: (6105)]
ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلاّ ارتدّت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك". [البخاري: (6045)].
وهناك نصوص أخرى كلها تؤكّد على معنى واحد وهو وجوب الاحتياط الشديد في إطلاق الأوصاف على المسلم، ووجوب ابتعاد المسلم عن كل ما يؤدي إلى إمكان تجاوز الحدّ في الاعتداء على إخوانه المسلمين بما يقدح في دينهم وعلاقتهم بربهم.
وحين نتأمل في تلك التحذيرات نجد أن الشريعة إنما فعلت ذلك سعيًا منها إلى أن يسود العدل والبعد عن الظلم في التعامل بين المسلمين، وحرصًا منها إلى سدّ كل الأبواب التي يمكن من خلالها أن تُستغلّ تلك الأوصاف وتنزل على غير من يستحقها.
وقد أكّد علماء المسلمين على نفس المعنى الذي أكّدته النصوص الشرعيّة، وبيّنوا أن الواجب على المسلم أن يحذر غاية الحذر من إطلاق أوصاف التضليل والتفسيق والتكفير على المسلمين، وشنّعوا شناعة كبيرة عليه، وكشفوا عن مخالفته للشريعة، وفي هذا يقول ابن عبد البر: "فالقرآن والسنة ينهيان عن تفسيق المسلم وتكفيره ببيان لا إشكال فيه، ومن جهة النظر الصحيح الذي لا مدفع له أنّ كلّ من ثبت له عقد الإسلام في وقت بإجماع من المسلمين ثم أذنب ذنبًا أو تأوّل تأويلاً، فاختلفوا بعد في خروجه من الإسلام لم يكن لاختلافهم بعد إجماعهم معنى يوجب حجة، ولا يخرج من الإسلام المتفق عليه إلاّ باتفاق آخر، أو سنة ثابتة لا معارض لها، وقد اتفق أهل السنة والجماعة وهم أهل الفقه والأثر على أن أحدًا لا يخرجه ذنبه وإن عظم من الإسلام، وخالفهم أهل البدع فالواجب في النظر أن لا يكفر إلاّ إن اتّفق الجميع على تكفيره، أو قام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب أو سنة". [التمهيد: (17/21)]، وهناك تقريرات عديدة في التحذير من الإقدام على إنزال تلك الأوصاف من غير بيّنة.
وقد طبّقوا ذلك على أنفسهم. انظر إلى ابن تيمية ماذا يقول: "هذا مع أني دائمًا ومن جالسني يعلم ذلك مني أني من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلاّ إذا علم أنه قد قامت عليه الحجّة الرساليّة التي من خالفها كان كافرًا تارة وفاسقًا أخرى وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها: وذلك يعمّ الخطأ في المسائل الخبريّة القوليّة والمسائل العملية". [الفتاوى: (3/229)]، فها هو ذا ابن تيمية يعظّم أن يُنسب إليه أنه فسّق معيّنًا من المسلمين أو كفّره إلاّ بعد إجراءات واسعة، مع أنه كان يناقش أقوامًا وقعوا في الشرك والكفر الصريح، فلماذا فعل ذلك؟!! فعله لأنه مدرك لخطورة هذا الباب ومستحضر لتحذيرات الشريعة من الإقدام والتساهل في هذه القضية.
وقد ضرب علماء الحديث أروع الأمثلة في الالتزام بتلك التحذيرات الشرعيّة، فإنّا نجد لديهم احتياطًا شديدًا في التجريح للرواة من المسلمين وتخوّف بالغ وتحوّط كبير في ذلك، مع أن فعلهم مطلوب شرعًا، ومع أن نقدهم لا يصل في أحيان كثيرة إلى الحكم بالفسق والضلال فضلاً عن الكفر، وإنما هو في بيان فقدان الضبط والإتقان، ومع هذا كله تجد لديهم ذلك التخوّف العظيم.
ومن أجمل تلك الصور ما قاله ابن دقيق العيد: "أعراض المسلمين حفرة من حُفَر النار، وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدّثون والفقهاء". [الاقتراح: (302)].
وكان بعضهم يبكي وهو يذكر التجريح في بعض الرواة خوفًا من أن يكون وقع في عرض أخيه المسلم خطأً. تأمّل كيف يحصل منهم ذلك وهم لم يفعلوا إلاّ عملاً مشروعًا.
وهذا كله يدلّ على عظيم إدراك علماء المسلمين لخطورة التساهل والتهاون في الوقوع في أعراض المسلمين وديانتهم وعلاقتهم بربهم.
وقد كرّر ابن تيمية في مواطن من كتبه شرح طريقة أهل السنة في التّفسيق والتّضليل والتّكفير، وبيّن أنهم يحسنون الظنّ بأهل القبلة، ويتحوّطون كثيرًا في إطلاق تلك الأوصاف ولا يتسرّعون فيها، وبيّن أن أهل السنة ليس كغيرهم؛ فهم يخطئون ولكن لا يتجرّؤون على التّكفير والتّضليل إلاّ بعد احتياطات كثيرة جدًا انظر مثلاً: [منهاج السنة ( 5/251)].
فكما أن التّكفير والتّضليل والتّفسيق لمن يستحقه واجب شرعي وهو من طريقة أهل السنة، فكذلك الاحتياط والحذر في إطلاق تلك الأوصاف واجب شرعي وهو من طريقة أهل السنة، فلا يصحّ لنا التركيز على أحدهما دون الآخر.
ومما يزيد من وضوح خطورة التساهل في إطلاق أوصاف التّفسيق والتّضليل على المسلمين: ما كرّره العلماء من أن الأصل في المسلم السلامة من الفسق والضلال، وما يؤكدون من أن هذا هو الأمر قطعي لا يقبل الشكّ، وأنّ أيّ وصف آخر هو في الحقيقة خروج عن ذلك الأصل.
وهذا ما يدلّ عليه عموم وإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا". [البخاري (1739)].
وفي تأكيد هذا الأصل يقول ابن تيمية: "وليس لأحد أن يكفّر أحدًا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تُقام عليه الحجّة وتبين له المحجّة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يُزل ذلك عنه بالشكّ؛ بل لا يزول إلاّ بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة". [الفتاوى: (12/468)]، وهذا الحكم ليس خاصًا بالتفكير فقط، بل يشمل التّفسيق والتّضليل، كما تدل عليه تقريرات ابن تيمية وغيره.
وإذا كان الأصل القطعي أن المسلم هو السلامة من الكفر والفسق والضلال فإن هذا يستلزم أربعة أمور:
الأول: أنه يجب الاحتياط الشديد في إصدار أي يحكم يخالف ذلك الأصل، وأنه يجب على المسلم أن يراجع نفسه ويحاسبها كثيرا قبل إطلاق تلك الأوصاف.
الثاني: أنه يجب على الخارج عن ذلك الأصل أن يقدم الأدلة والمسوّغات التي اعتمد عليها في خروجه، ولا يرسل الكلام إرسالاً.
الثالث: أنه يجب على المتابعين ألاّ يقبلوا قول أي أحد خرج عن الأصل في حكم المسلم إلاّ بعد أن ينظروا في أدلّته ومسوّغاته، ويقوموا بفحصها.
الرابع: أنه لا يجوز ولا يصحّ أن يعتمد على الأحوال العبارات والمقامات المحتملة في الخروج عن ذلك الأصل.
وإذا فعلنا هذه المستلزمات الأربعة فإنّا سنحقق الهدف التحذيري والغاية الاحتياطيّة التي أشارت إليها نصوص الشريعة في التعامل مع تلك الأوصاف.
-2-
وإذا كانت الشريعة حذت من التسارع إلى تضليل المسلمين وتفسيقهم، ومن كثرة استعمال تلك الأوصاف في التعامل بينهم فما هي المعالم التي تنكشف بها حالة التساهل في إطلاق تلك الأوصاف؟!
هناك معالم عديدة يمكن أن نتعرف من خلالها على صورة الحالة المخالفة لتحذيرات الشريعة وعلمائها من الإقدام على تضليل الناس وتفسيقهم، ومن تلك المعالم:
الأول: الاعتماد على العبارات والمقامات والأحوال المحتملة في إطلاق وصف الفسق والضلال والكفر على المسلم، وعدم الحرص على التحقّق من المعنى والمقصود الذي يريده من كلامه الشخص المسلم الذي الأصل فيه السلامة.
الثاني: المسارعة إلى إطلاق أوصاف التّفسيق والتّضليل قبل التأكّد من قيام الحجّة والتحقّق من انتفاء الشبهة، وهذه المسارعة شيء عظيم في دين الله؛ لأنّها تنتهي إلى القدح في علاقة شخص من المسلمين بربّه والدخول فيما بينه وبين خالقه ومولاه.
الثالث: فتح الباب لكل من مارس شيئًا من العلم والثقافة ليقوم بإطلاق تلك الأوصاف على المسلمين، وكم سمعنا من تحذيرات علمائنا التي تنهى عن فتح الباب بهذه الصورة.
الرابع: التوسّع في إدخال أمور لا توجب التّفسيق ولا التّضليل في دائرة ما يوجب ذلك، وقد أكّد ابن تيمية وغيره من العلماء على أنه كما يجب علينا الاحتياط في إلحاق الأوصاف بالمعين، فإنه يجب علينا أيضًا الاحتياط في إلحاق الأوصاف بالأفعال، فكما أن الحكم على شخص ما بالكفر والضلال أمر كبير في دين الله، فكذلك الحكم على فعل ما أو على عبارة ما أو على حالة معينة بأنها توجب الكفر أو الفسق أو الضلال أمر كبير في دين الله؛ لأنها كلّها من القول في شرع الله بغير علم.
الخامس: جعلها غايات لأمور أخرى، كالتحذير من الأشخاص ونحو ذلك، فلا يجوز أن نطلق ألفاظًا كلفظ: النفاق والضلال والفسق، بغرض أن نحذر من شخص ما أو اتجاه ما، فإنه يمكنك أن تصل إلى غايتك التحذيرية من غير أن تقحم تلك الحقائق الشرعيّة الشديدة الخطورة في ما تريد الوصول إليه.
والاتصاف بواحدة من تلك المعالم أو بأكثر يدلّ على أن الإنسان متلبّس بالتساهل فيما حذّرت الشريعة منه، ومتهاون فيما عظّمت الشريعة شأنه.
-3-
ولا بدّ من التأكيد في نهاية هذا المقال أن القصد الأولي منه ليس إلغاء التفكير والتفسيق والتضليل؛ أو التقليل من شأنها، أو الدّعوة إلى إغلاق بابها، كلّ هذه الأمور غير مرادة؛ إذ كيف يُراد ذلك وهي جزء من الشريعة لابدّ لنا من التزامه والأخذ به.
وإنما الغرض الدّعوة إلى الالتزام بما طالبت الشريعة به، وهو الحذر الشديد والاحتياط الكبير في التعامل مع تلك الأوصاف، والقصد منه تسليط الأضواء على ظاهرة تظهر بين الفينة والأخرى في سجالاتنا الفكريّة والحواريّة، يظهر فيها الإكثار من ألفاظ التّضليل والتّفسيق، والتّهاون في إطلاقها على الأشخاص أو الأفعال المجرّدة من غير تمحيص للاحتمالات المرادة منها، ويقصد منه أيضًا لفت النظر إلى طريقة أهل السنة في التعامل مع تلك الأوصاف تحقيقًا وإطلاقًا في حالة تحقّق الشروط، وحذرًا وابتعادًا في حالة الالتباس أو عدم تحقّق الشروط .
الثلاثاء 20 يناير 2015, 3:06 pm من طرف Ɠǿȴ Ð Ɍоɠєɽ